شرح أسماء الله الحسنى

     شرح لستة وعشرين اسما     

شرح فضيلة الشيخ

أ.د./ حسن عبدالحميد بخاري 

المدرس بالحرم المكي


 دروس عبر برنامج واتس اب -  يناير 2022



أسماء الله الحسنى


               البــر 


              البديـــع 

 
 
 
 
 
 


----------


    ﴿   البــــاري   

 




  بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيم

أسعد الله أوقاتكم بطاعته ومرضاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

 لقد كان نَبِيِّنَا صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ يثني عَلَى ربه فيحسن الثناء، وكان مِمَّا أثنى به عَلَى ربه عَزَّ وَجَلَّ أنه وصفه بكونه برأ المخلوقات وذرأها وخلقها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

 في الحديث الذي حسنه الألباني -رَحْمَةُ الله عليه- فيما روى الإمام أحمد، أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كادته الشياطين وتحدرت عليه من رؤوس الجبال، وفيهم شيطان معه شعلة من نار يريد أن يحرق بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فرعب، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: قل: «أعوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، مِن شرِّ مَا ذَرَأَ وَخلقَ وبَرَأَ، ومِن شرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ، ومِن شرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، ومِن شرِّ مَا ذَرَأَ فِي الأرضِ، ومِن شرِّ مَا يخرجُ مِنْها، ومِن فِتَنِ الليلِ والنَّهارِ، ومِن شرِّ كلِّ طَارِقٍ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ!»، قَالَ: فَطَفِئَتْ نارُ الشَّيَاطين، وهَزَمَهُمْ اللهُ تَعَالَى.

برأ سبحانه خلقه: أي: بثهم وأوجدهم ونشرهم بين الخلائق، فسبحان الباري جل في علاه! 


 



في سورة البقرة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)﴾ [البقرة: 54].

 هاتان مرتان متجاورتان جاء فيهما اسم الباري سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والباري في اللغة يأتي بمعنى خلق، فإنه اسم فاعل من برأ، وبرأ فعل من الأفعال التِي تدل عَلَى معنى الخلق والإيجاد.

 ولهذا جاء اسم الباري الْثَّالِث في القرآن الكريم مجاورًا للفعلين والاسمين المشتملين عَلَى الخلق والتصوير في ختام سورة الحشر: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)﴾ [الحشر: 24].

وبرأ في اللغة: تدل عَلَى معنيين أصليين كما يقول أهل اللغة:

أَحَدُهُمَا: الخلق، كما في قوله تَعَالَى: ﴿فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ﴾ [البقرة: 54]؛ أي: إِلَى الله خالقكم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وَأَمَّا المعنى الآخر: فهو التباعد عن الشيء، ومنه قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لما خرج من عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ -في مرضه الَّذِي مات فيه- فخرج من عنده وسأله الناس: يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟، فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أصبح بارئًا بحمد الله، يعني معافىً من المرض الَّذِي كان قد ألم به، والوجع الَّذِي نزل به صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.


ومن هذَا المعنى اللغوي: جاء اسم الباري سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه الخالق لخلقه من عدم، وهو واهب الحياة للأحياء، وهو جَلَّ جَلَالُهُ الباري الخالي من العيوب، السالم من الآفات، فالباري سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما يدل عَلَى معنى الخلق -وفيه العظمة والقدرة الإلهية- فإنه يدل عَلَى معنى الكمال والسلامة من العيوب والآفات، والتنزه عن النقائص، وما لا يليق بِالْرَّبِّ الكريم فسبحان الباري جَلَّ فِي عُلَاهُ.

ربنا الباري سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ أي: الخالق، وإن كان اسم الباري يحمل مزية في الاختصاص في معنى الخلق، فإنه يحمل معنى فصل الخلائق وتمييزها عن بعضها، لأن أحد معنيي برأ: التباعد عن الشيء -كَمَا تَقَدَّمَ-، وقد ذَكَرَ بعض أهل العلم تمييزًا بين اسم الخالق واسم الباري، بأنهما يشتركان في معنى الخلق والإيجاد -كَمَا تَقَدَّمَ- أيضًا.

يقول الشوكاني رَحِمَهُ اللَّهُ: الباري أي الخالق، وقيل: أي المبدع الموجد خلقه عَلَى غير مثال ونظير سبق، ولذلك قَالَ ابن كثير أيضًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: البارئ الخالق، ولما فرق بينهما قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الخلق هو التقدير، وَأَمَّا البرء فهو إبراز وتنفيذ ما قدره وقرره إِلَى الوجود، فجعل بين المعنيين فاصلًا يتميز كل واحد منهما عن الآخر.

أما الإمام الخطابي رَحِمَهُ اللَّهُ فقد ذهب إِلَى أن برأ واسم الباري سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يختص بالخلق المتعلق بعالم الحيوان، وَأَمَّا الخلق فهو أعم، يشمل الجمادات وغيرها، فالخلق يشمل السماء والأرض والجبال، قَالَ: وقلما يستعمل فيها اسم الباري، فما يقال: برأ السماء وبرأ الأرض، لكن المقصود بث الحياة في مخلوقاته الأحياء، وهنا يتميز بين الاسمين معنى نجده فارقًا لأنه ليس في أسماء الله سبحانه وتعالى المتغيرة ترادف تام من كل وجه.

ومنه ما كان يقسم به علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه؛ عندما يقول: لا وَالَّذِي فلق الحبة وبرأ النسمة.

 يا كرام، ربنا الباري سبحانه وتعالى الذي برأنا وخلقنا وذرأنا وأوجدنا من العدم، رب عظيم، هذا الاسم يستوجب في النفوس كمال التعظيم والتوحيد لله الباري، لأنه لا أحد يشاركه في هذا الاسم سبحانه وتعالى، وخلقه إن كانت لهم فضل صنعة وإيجاد في شيء مما سخرها لهم سبحانه وتعالى، لكن البرء أمر تفرد الله جل جلاله به.

فلنجعل في توسلاتنا إِلى الله، ودعواتنا التي نجعل فيها من أسمائه الحسنى وصفاته العلا ما تشعر به النفس تعظيمًا وإجلالًا تستدر به رحمة الله وعطفه، وتستنزل قضاء حوائجها اسم الباري سبحانه وَتعالى.

واعلموا أن البارئ الذي خلقنا وأحسن تصويرنا وأوجدنا من عدم، وسلمنا من العيوب، وما زالت أفضاله علينا تترى كريم عظيم، ننشأ وننشئ أجيالنا عَلَى تعظيمه وكمال حبه والتعلق به جل جلاله، كلما أبصر أحدنا نفسه في المرآة فرأى فيها كمال الخلقة واستوائها، وجمال الصورة وحسنها، وسلامتها من العيوب والنقائص، وقدرته عَلَى حياة يعيش بها بين الأحياء.

فليعلم أن البارئ سبحانه وتعالى، الخالق العظيم، الذي خلقه فصوره وأحسن خلقته، رب كريم إِنما يستحق كمال العبودية التي خلقنا الله تعالى لأجلها.




 


 


    ﴿   الباعــث   

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 
 

السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ

ذَكَرَ بعض المفسرين مثل: مجاهد وقتادة والسدي وعروة بن الزبير وغيرهم رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهُمْ، أن أبي بن خلف، وقال بعضهم إنه العاص بن وائل السهمي، أنه جاء إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي يده عظم رميم وهو يفتته ويذريه في الهواء، ثُمَّ يقول: يا مُحَمَّد أتزعم أن الله يبعث هذَا؟

فَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَم، يميتك اللَّه ثُمَّ يحييك ثُمَّ يحشرك إِلَى جَهَنَّم».

قيل: فنزلت الآيات الأخيرة من سورة يس: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)﴾ [يس: 77 - 79].

﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا ۚ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ۚ وَذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)﴾ [التغابن: 7، 8].

ليس في كتاب الله الكريم ورود اسم الباعث لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكنما جاءت الأفعال الَّتِي تثبت صفة البعث لله جَلَّ جَلَالُهُ، في مثل قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)﴾ [البقرة: 56].

وقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ﴾ [الحج: 7].

ومنه أيضًا قول ربنا جَلَّ جَلَالُهُ: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].

وَأَمَّا في السُّنَّة: فقد ورد اسم الباعث في الحديث الذي روى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فيما أخرج الأئمة الترمذي والبيهقي وابن حبان في صحيحه، الَّتِي فيها سرد الأسماء الحسنى: «إنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّة».

وجاء في سياق تعدادها اسم الباعث لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

 هذَا اسم الباعث المشتمل عَلَى معنى البعث يعود في اللغة إِلَى معنى الإنهاض والاستثارة، يقال: بعث بعيره أي: أثاره فاستنهضه، وبعث خادمه أو غلامه؛ أي: أرسله.

قَالَ الليث: والبعث في اللغة يأتي عَلَى معنيين:

§       أَحَدُهُمَا: الإرسال، ومنه قوله تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا﴾ [النحل: 36].

وقوله: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [يونس: 74].

وقوله سُبْحَانَهُ: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَارُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (75)﴾ [يونس: 75].

§       وَأَمَّا المعنى الْثَّانِي: فهو الإنهاض والإخراج والإحياء، ومنه قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ﴾ [الحج: 7].

﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)﴾ [البقرة: 56].

وعَلَى هذين المعنيين يتنزل اسم الباعث سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن الله يبعث خلقه؛ أي: يخرجهم من قبورهم ويحييهم وينشرهم ليوم القيامة والعرض والجزاء والحساب، والله أيضًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد بعث رسله مبشرين ومنذرين، وبلغهم وحيه وشريعته لأجل تبليغها للأمم، ودلالتهم عَلَى صراط الله المستقيم، ودينه القويم، فسبحان ربنا الباعث سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. 

قضية البعث بعد الموت؛ جزءٌ من القضايا القرآنية الَّتِي تكرر ورودها في القرآن، إذ كانت بصدد إثبات هذِه القضية لكفار قريش فإنها كانت إحدى مسائل العقيدة التِي تنزل الوحي بها، ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا ۚ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ۚ وَذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا﴾ [التغابن: 7، 8].

إنه البعث الَّذِي كابرت فيه قريش وسائر كفرة العرب زاعمين أنه لا حياة بعد الموت.

هذِه القضية الَّتِي تعيد للعقل البشري توازنه، وتفكيره في الحياة وما بعد الحياة؛ الَّتِي ألقت بظلالها اليوم في ماديتها الطاغية حَتَّى أنست طوائف من البشر ما الَّذِي ينتظرهم بعد الموت؟

إن عقيدتنا -أمة الإسلام- تقوم في أحد أركانها عَلَى الإيمان باليوم الآخر، وأول مراحله وأجزائه البعث من القبور، والإخراج، والإحياء والنشور.

في صحيح البخاري، أن رجلًا أتى النَّبِي عَلَيْه الصلاة وَالسلام وهو بارز إِلى الناس، فَقَالَ: ما الإيمان؟، فَقَالَ النبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْإِيمَانِ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وبلقائه وبالرسل وَبِالْبَعْث».

الإيمان باليوم الآخر حياة أخرى، عقيدة تنشئ في حياة المسلم توازنًا واستقرارًا، فَأَمَّا الطائع المجتهد في طاعته فلا يزال حريصًا عَلَى الاستمرار كسبًا لحسنات يحب أن تبيض بها صحيفته، ويسر يوم يلقى الله.

وَأَمَّا المقصر والخائف والمفرط عَلَى نفسه فلا يزال يتيقظ بين الحين والحين وواعظ الإيمان في قلبه يذكره أن انتبه عبد الله، فإن بعثًا قريبًا ينتظرك، وستقابل الله عَزَّ وَجَلَّ.

كان مطرف بن عبد الله بن الشخير رَحِمَهُ اللَّهُ يوصي أصحابه، فيقول: أَيُّهَا الناس اجتهدوا في العمل، فإن كان اللقاء غدًا كما نحب ونرجو من رحمة الله وعفوه، كانت الحسنات والدرجات، وإن كانت كما نخاف ونحذر لم نقل: ربنا أخرجنا نعمل صالحًا غير الَّذِي كنا نعمل، بل نقول: قد عملنا فلم ينفعنا.

 هذَا هو حال الأكياس الصالحين؛ الذِينَ أثنى الله عَزَّ وَجَلَّ عليهم في كتابه الكريم من إيمانهم بالبعث وربنا الباعث سُبْحَانَهُ الَّذِي أخبر بهذا في سورة )المؤمنون(: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)﴾ [المؤمنون: 60].

أرأيتم كيف يصنع الإيمان بالباعث في حياة قلوب أصحابها المؤمنين؟! قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)﴾ [المؤمنون: 61].

نسأل الله عَزَّ وَجَلَّ أن يلحقنا بهم جميعًا بفضله وكرمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. 

 


    ﴿   البديــع   

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 


مرحبًا بكم أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام.

 في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كنت جالسًا مع النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد، ورجل قائم يصلي، فلما ركع وسجد وتشهد دعا، فَقَالَ: "اللهم إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدُ لَا إلَهَ إِلَّا أَنْت، الْمَنَّان، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ"، ثُمَّ سأل، فَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: «أَتَدْرُون بِمَ دَعَا؟».

قالوا: الله ورسوله أعلم، قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ دَعَا اللّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إذَا دُعي بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئل بِهِ أَعْطَى».

في موضعين اثنين من كتاب الله الكريم جاء اسم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى البديع:

§       ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ(117)﴾ [البقرة: 117].

§       ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)﴾ [الأنعام: 101].

 بديع هو اسم الله البديع سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فربنا بديع في ذاته؛ أي: لا نظير له في ذاته ولا في صفاته، ولا في خلقه ومصنوعاته، فهو البديع اَلْمُطْلَق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهذَا أحد المعنيين في اسم الله البديع سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

 وَأَمَّا المعنى الآخر: فأنه جَلَّ جَلَالُهُ لعظمته وعظيم خلقه فقد خلق الخلق وأنشأه عَلَى غير مثال سابق يحتذى، فأبدع خلق السماوات والأرض والجبال والشجر والحجر والإنسان.

 بديع ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في خلقه، أنشأه عَلَى غير مثال سابق فكان عَلَى نحوٍ يبعث عَلَى تعظيم الله بما هو أهل له جَلَّ فِي عُلَاهُ.

 ومن هنا جاء الموضعان اللذان ذُكر فيهما اسم الله سُبْحَانَهُ البديع؛ لربط السياق بتعظيم يليق بربنا البديع سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:

§       في الآية الأولى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (117)﴾ [البقرة: 117].

§       وفي الأخرى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)﴾ [الأنعام: 101]

 هذَا ربنا البديع سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

 يذهلنا كثيرًا ما نقف عليه في بعض مظاهر العظمة الَّتِي تلتقطها العدسات أو تكتشفها الدراسات، فيما تصوره العدسات وتحللها كثيرٌ من الأبحاث المتخصصة في جوانب الخلق الفسيح من حولنا في الكون، في عالم البحار أو الفضاء، في عالم الطيور أو الحشرات، خلقٌ عجيبٌ بديع، يثير فينا الدهشة في تنوعها، في تعدد أصنافها، في دقة ما يحتويه خلقها من إبداع.

إن كان يذهلنا عظمة الصنع وعجيب الإبداع، فكيف بعظمة الخالق البديع سُبْحَانَهُ، والله إن ذلك ليحيي روح الإكبار والإجلال والتعظيم لربنا الخالق البديع سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

 بديع السماوات والأرض: هذا الإبداع الَّذِي ننظر إليه في دنيانا -يا بني آدم- ويعيش عَلَى وجه الأرض اليوم سبعة مليارات أو ثمانية من الإنسان يختلفون في كل شيء، فلكل واحدٍ من هذَا العدد المهول الضخم بصمة أصبع تميزه عن الجميع، وبصمة عين، وقزحية يختلف بها عن الكل.

فضلًا عن بصمة الدم والبصمة الورَاثِيَّة، وقل مثل ذلك في رائحته ونبرة صوته الَّتِي تتميز بها كل شخصية عن الآخر، شيء مهول، هذا إذا ألقيت نظرة عَلَى جنس البشر وحدهم، وهم خلقٌ من خلق الله العظيم في هذَا الكون الفسيح.

والله يقول: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)﴾ [غافر: 57].

إن جزءًا من تقوية إيماننا -أمة الإسلام- وارتباطنا بخالقنا وشدة حبنا وإجلالنا لربنا سُبْحَانَهُ أن نعيش مع معاني هذِه الأسماء عيشًا يحيي في ضمائرنا تعظيمنا لله، وإكبارنا وإجلالنا لخالقنا جَلَّ فِي عُلَاهُ، إن البديع سُبْحَانَهُ الَّذِي أبدع خلقه، وأحسن كل شيء خلقه، ليقودنا في آياته وملكوته قيادة نهتدي بها إِلَى عظمته الَّتِي تفرض علينا طاعته ولزوم حده، والتزام أمره ونهيه، لنلقاه وهو راضٍ عنا غير غضبان، سُبْحَانَهُ من إله عظيم.

 


    ﴿   البـــر   

ـــــــــــــــــــــــــ




حياكم الله أَيُّهَا الكرام.

 إذا دخل أهل الجَنَّة الجَنَّة، وتنعموا بنعيمها المقيم، وحلوا بالقصور والدور والدرجات العالية، في ذلك المقام تتفاوت درجات أهل الجَنَّة بحسب مراتبهم وأعمالهم، وكرم الله عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي ينالهم.

 تتفاوت الدرجات، فربما لم يلتقِ بعض الآباء والأمهات بأولادهم، فتحل نعمة أخرى من الله عَزَّ وَجَلَّ بأهل الجنان، فيكرمهم برفع الأولاد إِلَى والديهم في درجاتهم لتكتمل الفرحة ويتم النعيم.

اسمعوا إِلَى هذَا السياق الكريم في سورة الطور، يقول الله سُبْحَانَهُ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾ [الطور: 21]، يعني في الدنيا.

﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الطور: 21]، يعني في الجَنَّة.

﴿وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) ۞ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)﴾ [الطور: 21 - 26]، يقصدون حالهم في الدنيا.

﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)﴾ [الطور: 26 - 28]، جعلنا الله وَإِيَّاكُمْ منهم، قولوا آمين.

﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)﴾ [الطور: 25 - 28].

اسم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى البر لم يأتِ إِلَّا مرة فريدة وحيدة في القرآن الكريم، هي في قوله تَعَالَى عن حال أهل الجَنَّة وفرحتهم وامتنانهم بما وجدوا من نعيم الله وإكرامهم: ﴿إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)﴾ [الطور: 28].

البر بفتح الباء الَّذِي يتصف بالبر، والبر كما هو معلوم هو الإحسان والاتساع وصلة الخير، ولذلك جاء منه بر الوالدين، فالبار بوالديه المطيع لهما، والجمع البار أبرار، وجمع البر برر، هذَا البر الَّذِي يوصف به فعل الإنسان بفعل الخير والإحسان واللطف والإكرام هو أصلٌ في معنى اللغة من البر.

فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى البر، فاعل البر سُبْحَانَهُ، والمراد هنا بالبر إحسانه جَلَّ جَلَالُهُ إِلَى خلقه أَجْمَعِيْنَ، فالله برٌ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، محسن إِلَى الكائنات كلها في البر والبحر، في الأرض وفي السماء، إحسانه عم المخلوقات والموجودات أوجدهم من عدم، رزقهم، أكرمهم، دبر أحوالهم، وكفاهم أمر معاشهم.

الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بر بعباده، فيجزي المحسن بإحسانه، ويعفو عن المسيء ويصفح، لأنه بر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، البر جَلَّ جَلَالُهُ يغدق بفضله وإكرامه وإنعامه، فتتوالى نعمه، ويرزق العاصي وهو مقيم عَلَى معصيته، ويستر عليه حَتَّى يعود إليه، بل بره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بخلقه رفقه بهم، وصفحه وحلمه، وانتظار المسيء والعاصي والمدبر حَتَّى يعود إِلَى الله فيقبل عليه فيتوب الله عليه.

إن ربنا بر، ولهذا أمرنا بالبر سُبْحَانَهُ، ووعد عليه أفضل الجزاء، وأكرم أهله، وجعل الجَنَّة للأبرار، إن فعل الطاعة الَّتِي ينهض لها أهل الإسلام، ويستجيب لها المؤمنون، ويقبلون عَلَى طاعة واستجابة وامتثال إِنَّمَا يتصفون بالبر، لأن ربهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كريمٌ برٌ، وهو الَّذِي دعاهم إِلَى تلك المكارم، وَإِلَى تلك الطاعات، وندبهم إِلَى ذلك الإحسان، فأقبل العباد ببرهم يقابلون ربًا برًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ما أعظمه!! فلا إله إِلَّا هو، ولا رب لنا سواه.

قَالَ ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: البر اللطيف، والحق أن هذَا الاسم من أعظم أسماء الله الحسنى الَّتِي تفيض عَلَى النفوس دفئًا، حبًا، شوقًا، ورغبة فيما عند الله، والتماسًا لبره وكريم عطاياه.

قَالَ الحليمي رَحِمَهُ اللَّهُ: البر الرفيق، "يستر عَلَى عباده، ويصفح، يجازيهم بحسناتهم ويضاعفها، ولا يجزي بِالسَّيِّئَةِ إِلَّا مثلها، يعفو ويغفر، لا يعاقب عَلَى الهم بِالسَّيِّئَةِ، ويجزي عَلَى الهم بالحسنة، يعفو عن كثير من السيئات، ولا يؤآخذ عَلَى كل الجنايات"، هذِه من المعاني الَّتِي يجد فيها العبد معنى اسم الله سُبْحَانَهُ وتعالى البر.

أما إن بر الله جَلَّ جَلَالُهُ بخلقه نوعان:

§       فبرٌ يشمل جميع المخلوقات والموجودات، فقد خلقها من عدم، ويسر كل شيء خلقه ثُمَّ هدى، وأعطى كل شيء خلقه وأحسنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

§       وَأَمَّا البر الخاص لأوليائه وعباده: فهو ما ينالهم من إحسانه وفضله وكرمه، ما ينالهم بجزاء إيمانهم به سُبْحَانَهُ من خصوص العطايا والهبات والمنح الَّتِي تجعلهم في حياة طيبة كما وعد الله عَزَّ وَجَلَّ أهل الإيمان، ولأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بر، فإنه يحب البر، وأمر به جَلَّ جَلَالُهُ، وجعل جزاء الأبرار جنات النعيم، ووعدهم فيها من ألوان وصنوف النعيم المقيم.

وجعل جزاء البر بالوالدين في أعلى الدرجات وأمر به في القرآن مع الأمر بعبادته سُبْحَانَهُ، لقد أثنى الله عَلَى عيسى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)﴾ [مريم: 32].

وأثنى عَلَى ابن خالته -يحيى عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَقَالَ عنه: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا﴾ [مريم: 14].

إن البر محمود في كل أبواب الشريعة، ومنه حسن الخلق، وقد جاء النواس بن سمعان يسأل النَّبِيّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عن البر، فَقَالَ له: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ».

 البر أصناف: ومنه في النفقة بلوغ أعلى درجاتها في الصدقات، بأن يخرج المرء ما يحبه من أصناف المال، يؤثر بذلك مرضاة الله، والصدقة برهان كما قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وإنا لنقرأ في كتاب الله الكريم: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92].

أيا عبد البر، ويا أمة البر، ربنا برُ سُبْحَانَهُ، استشعار هذَا الاسم في دعواتنا، في صلواتنا، في تضرعاتنا، ينزل علينا من بر البر سُبْحَانَهُ ما نحن بحاجة إليه، وأهل الجَنَّة لما دخلوها ورأوا من عظيم فضل الله وإحسانه وكرمه ولطفه، حَتَّى قرت أعينهم، وطربت نفوسهم فرحًا، قالوا: ﴿إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)﴾ [الطور: 28].

وفي قراءة صحيحة: ﴿إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ أنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾، لقد كانوا يدعون الله، ويتوسلون باسمه البر، فهلّا فعلناها في دعواتنا، وهلّا استنزلنا بر ربنا البر سُبْحَانَهُ متوسلين في دعواتنا، في مناجاتنا، في تضرعاتنا، أيا بر يا كريم، يا عظيم يا رحيم أُمنن علينا، وأغدق علينا من لطفك وبرك وإحسانك ما أنت أهل له، فإنك أنت البر الرحيم.


--------------------------------

 


    ﴿   الحسيب   

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حياكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

 في قصة الخليل إبراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ حين عزم قومه عَلَى إحراقه بِالنَّارِ، لما أقام عليهم الحجة، وفقدوا المحجة، وهو القائل لهم بعدما سألوه: من فعل هذَا بآلهتنا يا إبراهيم، أأنت فعلت هذَا؟، قَالَ: بل فعله كبيرهم هذَا، فلما كشفوا زيف باطلهم، وانكشفوا في حقيقة أمرهم، قالوا: حرقوه، وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين.

فلما ألقي عَلَيْهِ السَّلَامُ في النَّار، قَالَ: حسبنا الله ونعم الوكيل، قَالَ الله: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69)﴾ [الأنبياء: 69].

 حسبنا الله ونعم الوكيل، كلمة قالها الخليلان إبراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ. 

قَالَ ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ حين ألقي في النَّار، وقالها مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه لما قَالَ لهم الناس: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)﴾ [آل عمران: 173]، كفاهم الحسيب، وكفى بالله حسيبًا".

﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)﴾ [النساء: 86].

في كتاب الله الكريم؛ قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [النساء: 6].

وفي قوله أيضًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)﴾ [النساء: 86].

كما جاء الحاسب في قوله تَعَالَى: ﴿وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47]، فربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حسيب وحاسب.

أما الحسيب: فهو عَلَى صيغة المبالغة فعيل، ويأتي له في اللغة معنيان:

أَحَدُهُمَا: الكفاية والاقتدار، تقول: حسبي من الشيء كذا؛ أي: يكفيني، ومعنى الكفاية هنا أن الله عَزَّ وَجَلَّ يكفي من توكل عليه وهو جَلَّ جَلَالُهُ حسبه؛ أي: كافيه، من كل ما أهمه أو سأله أو طلبه، ورغب فيما سأله من عند الله.

ويأتي الحسيب بمعنى المكافأة والمحاسبة، والله عَزَّ وَجَلَّ يحفظ أعمال العباد ويحصيها عليهم ليجازيهم بها إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.

يقول الزجاج رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "الحسيب في أسماء الله تَعَالَى يأتي بمعنى الكفاية".

 تقول العرب: نزلت بفلانً فاكرمني وأحسبي، يعني أعطاني حَتَّى قلت: حسبي، فتحقق فيه معنى الكفاية، قَالَ: ويجوز أن يكون من أحسبني الشيء؛ أي: كفاني، بمعنى أنه عَلَى صيغة حسيب، لكنه بمعنى مفعل، فعيل بمعنى مفعل، كما تقول: أليم، بمعنى مؤلم.

وقال غيره: "هي من الصيغ الَّتِي تأتي عَلَى وزن فعيل، ويراد بها المفاعلة؛ أي: المحاسبة، حسيب بمعنى محاسب، وكما تقول العرب: وزير ونديم وجليس، يعني مؤازر ومنادم ومجالس، فمنه حسيب بمعنى محاسب".

أَيُّهَا الكرام ربنا عَزَّ وَجَلَّ الحسيب عَلَى عباده، وهو جَلَّ جَلَالُهُ كافٍ من توكل عليه، وجعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حسبه -أي: كافيه- من كل ما أهمه، فيأتي هذَا الاسم العظيم في عداد وسياق الأسماء الحسنى الَّتِي تبعث ثقة بالله وتعظيمًا له في القلوب جَلَّ فِي عُلَاهُ.

اسم الله الحسيب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحمل معنى الحساب والمحاسبة، فالله سُبْحَانَهُ أحصى خلقه: أعدادهم، أصنافهم، أماكنهم، لأنه خلقهم جَلَّ جَلَالُهُ، 

وأحصى أقواتهم وأرزاقهم لأنه يدبرها سُبْحَانَهُ، وأحصى أعمال المكلفين في دواوينهم، وصحائف أعمالهم، وسيجازيهم عليها، لأنه الحسيب سُبْحَانَهُ.

ويوم القيامة سيجازى أهل الأعمال بأعمالهم، ويدخل أهل الجَنَّة الجَنَّة، وأهل النَّار النَّار، لا يشغله سُبْحَانَهُ حساب أحد عن حساب أحد، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الحسيب.

اسم ربنا الحسيب -إخوة الإسلام- يبعث في النفس معنى فيه الكفاية، أو ما قَالَ الله لنبيه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)﴾ [الأنفال: 64].

وأنت، وأنتِ أيضًا فليكن حسبنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالله كافينا.

 وجملة حسبنا الله ونعم الوكيل ثقيلة، ليست في الميزان فَقَطْ، ولا عَلَى اللسان لكنها في القلب ثقة وطمأنينة في الشدائد والصعاب والمدلهمات.

 أرجو ألا تكون كلمة حسبنا الله ونعم الوكيل كلمة تقال تعبيرًا عن الضعف وخلو اليدين من الحيلة، وأسباب التدبير كأن قائلها يقول لا حيلة لي، ولا قوة مستسلمًا لما هو فيه من موقف أو كربة أو مصيبة.

إِنَّمَا يقولها الواثق بالفرج يأتيه من الله المنتظر، بيقين نصرًا وعزًا وبابًا يفتحه له الله قائلًا: حسبنا الله ونعم الوكيل.

 أما أنه من الأخطاء الشائعة أن تُقال: حسبنا الله ونعم الوكيل ويفهم معناها بمعنى الدعوة عَلَى من تقال عليه، فيقال: حسبنا الله عَلَى فلان أو عليك أو عليها، أما إنها الكفاية، وإذا قيلت فَإِنَّمَا يستنزل بها نصرٌ من الله، ليست دعوة عَلَى أحد، لكنها اتكال عَلَى الْرَّبّ الحسيب الكافي جَلَّ جَلَالُهُ.

أحبتي الكرام الحسيب الحفيظ الرقيب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هذِه الأسماء الحسنى تبعث في النفس إيقاظًا مستمرًا بيوم آخر ينتظرنا حين يكون الحساب عند الحسيب، ويكون ما نعمله في دنيانا هذِه، وما نقوله، وما ننشئه نحن مسؤولون عنه تمام المسؤولية، فليكن نصب أعيننا قول المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ تَزُولَ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يسْأَلُ عَنْ أَرْبَعٍ: عَن عمرِهِ فِيمَا أفناهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ بِهِ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟»، فأعدوا للسؤال جوابا، فإن لنا ربًا حسيبًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

 


    ﴿   التواب   

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 
 

تحية من عند الله مباركة طيبة، السلام عليكم ورحمة الله.

 في الحديث أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل عَلَى راهب، فأتاه فسأله: هل له من توبة، فَقَالَ: لا، فقتله فكمل به المائة، ثُمَّ سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل عَلَى عالم فأتاه فسأله هل له من توب؟ فَقَالَ له العالم: وما الذي يحول بينه وبين التوبة؟! انطلق إِلَى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله فأعبد الله معهم، ولا ترجع إِلَى أرضك فإنها أرض سوء. 

قَالَ: فانطلق الرجل، وبينما هو في مسيره حتى إذا انتصف به الطريق أدركه الأجل فمات، قَالَ: فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، قالت ملائكة الرحمة: إنه أقبل مقبلًا تائبًا فهو أحق بالرحمة، قالت ملائكة العذاب: لكنه لم يعمل خيرًا قط، فبعث لهم ملكًا عَلَى هيئة رجل يختصمون إليه فحكم بينهم أن قيسوا ما بين الأرضين، فَإِلَى أيتهما كان أقرب فهو له، فقاسوها فإذا هو أقرب إِلَى أرض التوبة، فأخذته ملائكة الرحمة، إنها توبة التواب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (36) فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن ربِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)﴾ [البقرة: 35 - 37].

﴿فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)﴾ [البقرة: 37]، أرأيتم؟ لقد ابتدأت توبة ربنا التواب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مع أول خطأ وزلة وقع فيها آدم وذريته عَلَيْهِ السَّلَامُ، إنها توبة ربنا التواب سُبْحَانَهُ.

 اسمه التواب جَلَّ جَلَالُهُ وقع في القرآن الكريم أكثر من عشر مرات:

في مثل قوله تَعَالَى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة: 104].

وفي مثل قوله تَعَالَى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ [النور: 10].

إن التواب في أسماء الله تَعَالَى جاء عَلَى صيغة المبالغة عَلَى وزن فعال، وصيغ المبالغة إذا اتصلت بأسماء الله الحسنى فإنها تدل عَلَى المبالغة في الكم وفي النوع، يعني أن الله يتوب ويغفر لعباده جميع الذنوب كمًا، كما أنه يتوب ويغفر لعباده أكبر الذنوب نوعًا، أوما سمعتم قول الله سُبْحَانَهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: 48].

ربنا تواب سُبْحَانَهُ؛ بمعنى أنه جَلَّ جَلَالُهُ يوفق عباده للتوبة، ويهديهم إليها، ويشرح صدورهم للإقبال عليها.

 تأملوا الإشارة اللطيفة في قول الحق سُبْحَانَهُ: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)﴾ [النور: 10]، إذن هو فضل من الله يوفق له التائبين من عباده جَلَّ فِي عُلَاهُ.

ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تواب؛ بمعنى أنه يثبت التائب عَلَى التوبة، ويجعل قدمه مستقيمة عليها، ثابتًا عَلَى توبته، صادقًا في أوبته إِلَى ربه سُبْحَانَهُ.

 ربنا تواب إِلَى معنى أبعد من ذلك معشر العباد، ربنا سُبْحَانَهُ يغفر الذنب، ويعفو، لكنه مع ذلك يبدل السيئات حسنات، مزيدًا منه كرمًا وفضلًا وعطاءً سُبْحَانَهُ.

لما ذَكَرَ الله معاصي بعض العباد، وأنهم يقعون فيها في قتل وسرقة وزنا وإتيانٍ، قَالَ الله سُبْحَانَهُ: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (70)﴾ [الفرقان: 70]، ما أعظمها من صفة عظيمة لربنا الكريم التواب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى!!

إن ربنا التواب يفرح بتوبة عبده، توبة محاطة ببهجة وفرح، لا بحزن وأسى، «لَلَّهُ أَشَدُّ فرحًا بِتَوْبَة أَحَدكُمْ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ عَلَى فَلَاة عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابَهُ»، إنها توبة التواب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

«رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»، هكذا هي دعوات رسولنا صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، واستغفاره وتوبته إلى ربه التواب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، دلنا بهديه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، علمنا كيف نجعل من اسم التواب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بابًا ننطلق منه نحث الخطا إِلَى توبة واسعة تسع ذنوبنا الكثيرة المتراكمة.


«يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّه، فَو اللَّهَ إني لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.

 لما خلقنا الله بشرًا مجبورين عَلَى الخطأ والنقص، مفطورين عَلَى العيب والزلل، ولسنا معصومين من العصيان والذنب، شرع لنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى باب التوبة ووجهنا إليها، وحثنا عَلَى الاغتنام لهذا الباب الكريم.

﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31].

وما زالت الإغراءات بنا في الشريعة -أمة الإسلام- لنقبل عَلَى هذَا الباب الكريم لأننا لسنا معصومين، ولأنه لا غنى لنا عن طرق هذَا الباب وإتيانه صبحًا ومساءً، ليلًا ونهارًا، إن الله يبسط يده بِاَللَّيْلِ ليتوب مسيء النَّهَار، ويبسط يده بِالنَّهَارِ ليتوب مسيء اَللَّيْل.

أخي عبد الله، أختي أمة الله، بالله عليكم أي ذنب أحدنا صاحبه؟، أي خطيئة ألم بها؟، أي معصية اقترفها؟

 والله مهما تعاظمت ذنوبنا وتكاثرت خطايانا فلرحمة ربنا والله أعظم، وتوبته إلينا أقرب، ﴿إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر: 3] التواب كثير التوبة.

﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)﴾ [الشورى: 25].

بالله عليكم أصغوا بقلوبكم قبل آذانكم إِلَى هذَا الحديث القدسي الجليل، يقول الْرَّبّ عَزَّ وَجَلَّ: «يَا بْنَ آدَمَ إنَّك مَا دَعَوْتنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَك عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي، يَا بْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَك، يَا بْنَ آدَمَ إنَّك لَوْ أَتَيْتنِي بقِرابِ الأرضِ خَطَايَا ثمَّ لقيتَني لَا تشرِكُ بِي شيئًا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرةً»، اللَّهُ أَكْبَرُ.

والله إنها صفة التواب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إنه كرم الوهاب ربنا الكريم الحبيب العظيم جَلَّ فِي عُلَاهُ.

 أمة الإسلام، كم نحن بحاجة إلى تطهير دواخلنا، إِلى تصفية قلوبنا، إِلَى تنظيف سجلاتنا، وباب التوبة مفتوح، يغفر الله للعباد ما لم تطلع الشَّمْس من مغربها، ما لم يغرغر العبد، وتخرج الروح من الحلقوم فيبقى باب التوبة مفتوحًا، وعطاء الله يغدو ويروح، وفضله سُبْحَانَهُ لعباده ممنوح، أقبلوا فالله عَزَّ وَجَلَّ يقبل عليكم بتوبته.

 لما نزلت سورة النصر: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)﴾ [النصر: 3] تقول عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ما صَلَّى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة بعد أن نزلت: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)﴾ [النصر: 1] إِلَّا كان يكثر في ركوعها وسجودها أن يقول: «سُبْحَانَك رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»

 يا كرام، هذَا الباب العظيم إغراء لنا، والله إنا لنستحي من الله وهو يسمي نفسه بالتواب، ويصف لنا -معشر العباد- عظمة توبته، ثُمَّ يكون أحدنا مقصرًا فيها.

إننا أحق والله بأن نكون توابين إِلَى ربنا التواب جَلَّ فِي عُلَاهُ، عسى الله أن يقبلنا بتوبته، ويعفو عنا بكرمه، وصفحه وهو الكريم التواب.



 


     ﴿   الحميد   

تحية من عند الله مباركة طيبة، السلام عليكم ورحمة الله.

صَلَّى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه ذات مرة فركع، فلما رفع رأسه قائلًا: «سَمِعَ اَللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»، قَالَ رجل من الصحابة خلفه: رَبَّنَا لَكَ اَلْحَمْدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما قضى الصلاة، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ؟»، قَالَ الرجل: أنا يا رسول الله، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ ملكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيِّهِمَ يَكْتُبُهَا أَوَّل».

وهو الحميدُ فكل حمد واقع أوكان مفروضًا مدى الأزمان

                               ملأ الوجود جميعه ونظيره من غير ما عد ولا حسبان

                                                     هو أهله -سُبْحَانَهُ وبحمده- كل المحامد وصف ذي الإحسان. 

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)﴾ [فاطر: 15].

اسم الله الحميد سبحانه وتعالى؛ وقع في نحو سبع عشرة مرة في القرآن الكريم، لكنه كثيرًا ما يقترن باسم آخر من الأسماء الحسنى، مثل المجيد في قوله: ﴿رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ۚ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾ [هود: 73].

ومثل الولي في قوله تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)﴾ [الشورى: 28].

ومثل الغني في قوله تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)﴾ [فاطر: 15].

الحميد في اللغة: بمعنى المحمود، اسم مفعول يدل على ما يقع عليه الحمد، يقال في اللغة: رجل محمود الصفات والسجايا، محمود الأقوال والأفعال، إذا كانت أقواله وأفعاله وصفاته تقع عَلَى نحو يحمده عليها الآخرون، فهم يثنون عليه، ويذكرون فيه من جميل ما يقع منه.

والحميد في أسماء الله تعالى: صيغة مبالغة بمعنى أنه كثيرٌ ما يقع الحمد له جَلَّ جَلَالُهُ، فهو فعيل بمعنى مفعول -كما يقول الزجاج- لأن الله سبحانه محمود على كل لسان، ومحمود عَلَى كل حال.

وكما قال الخطابي رحمه الله: "فإن ربنا المحمود في السراء والضراء، ربنا المحمود في كل حال، في حال الكرب والشدة، وفي حال الرخاء، وذلك لأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكيم، لا يقع في فعله الغلط، ولا ينسب إِلَى فعله ما لا ينبغي، ربنا حميد، والحمد الواقع له في أرضه وسمائه ومن جميع خلقه لا حد له".

فالله جل جلاله المستحق للحمد أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، ولهذا كان الحميد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

 أما إن من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام إذا قام من الليل يصلي -كما في حديث ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أنه كان يقول: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَك الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعَدك حَقّ، وَقَوْلُك حَقٌّ، وَلِقَاؤك حَقٌّ، وَالجَنَّة حَقّ، وَالنَّار حَقّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقّ».

لقد كان صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ يجمع من المحامد ما استحق به صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْه، أن يكون سيد الحمادين، وأمته أمة الحمد، وهو القائل: «وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ»، إنه عرف حقًا الحمد المستحق العظيم لربنا الحميد سبحانه وتعالى.

ولأننا أمة الحمد ونبينا صلى الله عليه وسلم سيد الحمادين، وبيده لواء الحمد يوم القيامة، فإننا نعيش حمد ربنا جل جلاله في حياتنا -أمة الإسلام- عَلَى نحو كثيف، يبعثنا على الانتهاض للقيام بحمد ربنا جل جلاله فإنه حميد سبحانه، نستفتح كل ركعة في صلواتنا -في سورة الفاتحة- بالحمد لله رب العالمين، فيما لا يقل عن سبع عشرة مرة كل يوم وليلة.

فإذا ما ركعنا وسجدنا قرنا تسبيح ربنا العظيم وتسبيح ربنا الأعلى بالحمد، سُبْحَانَ رَبِّي اَلْعَظِيمِ وبحمده، سُبْحَانَ رَبِّي اَلْأَعْلَى وبحمده، فإذا ما رفع إمامنا رأسه من الركوع فَإِنَّمَا يقول: سَمِعَ اَللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لتلهج الأفواه، وتنبض القلوب: رَبَّنَا لَكَ اَلْحَمْدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد.

طوبى لعبد والله -إخوتي الكرام- يعيش هذَا الحمد في كل ركعة من صلاته، يقطر بها قلبه، مستشعرًا عظيم النعم والأفضال والآلاء التي ليس لها أول، وليس لها انتهاء، فربنا حميد سبحانه وتعالى.

 من أجل أن نعيش هذَا المعنى عظمة، ونملأ ميزاننا أجرًا وذخرًا وحسنات -نحن غدًا أحوج ما نكون إليها- هاكموها قوله عليه الصلاة والسلام: «وَالحَمْدُ للهِ تملأ الميزان».

فاملؤوا موازينكم بها، واستكثروا منها، بل هاكم أبوابًا تفتح لنا الطرقات نحو حمد ربنا في كل لحظة بالعشي والآصال.

 في الحديث الصحيح يقول المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه: «إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا»، كم مرة قلتها عبد الله، وأنتِ أمة الله؟ الحمد لله.

 من فينا ذاك الذي ما يزال يظن أنه إِنما يحمد الله عندما تتجدد نعمة ملموسة حاضرة: فيحمد الله إن أكل، فإن لم يجد سكت، يحمد الله إن لبس، فإن لم يجد انصرف، يحمد الله إن رزق بولد وزوجة ومال ووظيفة.

 يا كرام تجدد النعم الملموسة الحاضرة هي جزء مما نصرف له حمدنا لربنا، وإلا فأنفاسنا الَّتِي تتردد في صدورنا نعم لا تحصى، جوارحنا التي ما زلنا نستعملها نعم لا حد لها، العافية التي تغطي أبداننا نعمة لا وزن لها، كم وكم تحيط بنا النعم والآلاء، والله عز وجل وحده المنعم المستحق للحمد عليها.

ختامًا: يأسرنا كثيرًا إحسان ذوي الإحسان، وتفضل بعض ذوي الإكرام علينا بمال أو هدية أو كلمة طيبة، أو شفاعة أو تحقيق مصلحة، فنجد أنفسنا مضطرين -أدبًا وذوقًا- أن نشكره، وأن نثني عليه، وكلما عظم فضل ذي الفضل علينا وجدنا أنفسنا نلهج بالاعتراف بفضله، والثناء عليه بحمده، فبالله عليكم أي حال لنا -معشر العباد- مع ربنا الكريم؟ّ! أما أنه الحميد سبحانه.

﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: 44]، فلنكن أمة الحمد في مقدمة هذا الركب الذي يلهج بحمد الله، وينطق به فالحمد لله رب العالمين. 





 


     ﴿   الخالـــق   

  بسم الله الرحمن الرحيم 

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،


 في سنن أبي داوود أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَذِنَ لِي أَنْ أَتَحَدّث عَنْ مِلْكِ مِنْ مَلَائِكَةٍ السَّمَاءِ مِنْ حَمَلَهُ الْعَرْشِ، ما بَيْن شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ».

وفي حديث أبي ذر الغفاري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، الصحيح بمجموع طرقه كما قَالَ الألباني رَحِمَهُ اللَّهُ، يقول النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيّ إِلَّا كَحَلقَة مُلْقَاة بِأَرْضٍ فَلَاةٍ»، -يعني- في صحراء واسعة.

يقول: «وَفَضْل الْعَرْش عَلَى الْكُرْسِيّ كَفَضْل تِلْك الْفَلَاة عَلَى تِلْكَ الْحَلْقَةُ»، سبحان الله الخالق جَلَّ فِي عُلَاهُ!! 

﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)﴾ [الحشر: 24].

في موضع فريد؛ جاء اسم الله الخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بين الأسماء الواردة في آخر سورة الحشر: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)﴾ [الحشر: 24].

كما جاء اسم الخلاق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)﴾ [الحجر: 86].

وَأَمَّا الأفعال التي جاءت في القرآن تدل عَلَى صفة الخلق: خلق، ويخلق، فهي كثيرة في كتاب الله، وربما جاء إثبات معنى الخلق لله عَلَى صيغة المصدر: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190)﴾ [آل عمران: 190].

وفي السُّنَّة أيضًا؛ فإن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قَالَ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ».

 اسم الخالق لله جَلَّ جَلَالُهُ -أحبتي الكرام- فالخالق اسم فاعل من خلق.

والخلق في اللغة: يدل عَلَى معنيين:

إيجاد الشيء من العدم، وإيجاد الشيء من الشيء.

وربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّذِي سمى نفسه بالخالق، فلأنه خلق كل هذَا الكون بكل ما فيه، الله خالق كل شيء، وهو عَلَى كل شيء وكيل، خلق الكون بقدرته، وخلق الخلق بعلمه، إن اسم الخالق من الأسماء المركزية الجوهرية التي تحمل في ثناياها كثيرًا وعديدًا من معاني أسماء الله تَعَالَى الأخرى، والصفات العظيمة التي يجمعها اسم الخالق لله جَلَّ وَعَلَا.

ثُمَّ جاء بصيغة المبالغة؛ في قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)﴾ [الحجر: 86]، إنه خلق عظيم كثير، ليس له انتهاء، فربنا -جَلَّ جَلَالُهُ- متصف بهذه الصفة العظيمة، والإيمان بها، واستشعار معناها، يفتح للقلب وللنفس آفاقًا لا حدود لها من تعظيم الله جَلَّ جَلَالُهُ، والإيمان به كما ينبغي، وأداء حقه كما هو المطلوب من خلقنا معشر العباد.

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾ [الذاريات: 56].

 اسم الله الخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتصل بصفة عظيمة مع كثير من الأسماء الحسنى وما اشتملت عليه من الأوصاف.

 صفة الخلق تستلزم جملة من صفات الله جَلَّ جَلَالُهُ من الحياة، والقدرة، والعلم، والسمع، والبصر، والقوة، والغنى.

 انظروا وتأملوا كيف ربطت الآية الكريمة بين صفة الخلق لله، وصفتين هما من لوازم هذِه الصفة العظيمة: العلم والقدرة.

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق:12]. إن القلب الَّذِي يدرك ويعي معنى خلق الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى وجه العظمة اللائقة بالله جَلَّ جَلَالُهُ، ليحمله ذلك حملًا عَلَى أن يتعبد الله بعبادة عظيمة قل من يتنبه لها اليوم من الناس؛ إنها عبادة التَّفَكُّر.

تقول أم الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كان جل عبادة أبي الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ التَّفَكُّر، أوما نقرأ في سورة آل عمران: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [آل عمران: 190، 191].

وفي قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)﴾ [الجاثية: 3، 4].

أما إن القلب إذا وعى وأدرك وعلم معنى اسم الخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ حمله ذلك عَلَى تعظيم وتسبيح، اسمع قول الله: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3)﴾ [الأعلى: 1 - 3].

ومن علم حقيقة معنى اسم الخالق؛ قاده ذلك على دعاء وتوسل وثناء عَلَى الله بهذا الوصف العظيم الذي وصف الله به نفسه كثيرًا في كتابه الكريم.

 وقد ذَكَرَ الله عن تلك الفئة الَّذِينَ أثنى عليهم من عباده المتفكرين أولي الألباب، قَالَ: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192)﴾ [آل عمران: 191، 192]، إِلَى آخر ما جاء في دعواتهم.

فاعلموا رعاكم الله أن إثبات الخلق لله والإيمان به أمر عظيم، واستقراره في القلوب المؤمنة يثمر ثمارًا عجيبة عظيمة، ازرعوها في قلوبكم، وبثوها بين أهليكم وأولادكم، واجعلوهم يعظمون الخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تعظيمًا يليق به، فإنها ثمرات تنشئ حياة طيبة سعيدة في الدنيا، تظفر بالنعيم الأخروي عند رب كريم خالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.




 


     ﴿   الخبيــر   

بسم الله الرحمن الرحيم 

حياكم الله، وأهلًا ومرحبًا بكم مع اسمٍ من أسماء الله تعالى الحسنى

 في صحيح مسلم وقعت قصة لطيفة تحكيها أمنا عائشة رضي الله عنها، وذلك أنها افتقدت نبينا صلى الله عليه وسلم ذات ليلة -وهي ليلتها- وظنته عند بعض نسائه، فخرجت تتفقده عليه الصلاة والسلام، فألفته في مقبرة البقيع يدعو لأصحابه، ويستغفر لهم رضي الله عنهم، فلما علمت ذلك واطمأنت عادت مسرعة تدرك حجرتها قبل مرجعه عليه الصلاة والسلام.

فلما أتاها وجدها وقد حفزها النفس وهي تحت الغطاء، ولم تكن نائمة، فأدرك ذلك صلى الله عليه وسلم فسألها فلم تجبه، فَقَالَ لها: «لتخبريني أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»

 الخبير اسم لله سبحانه، من أكثر الأسماء وقوعًا في القرآن الكريم. 

﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)﴾ [لقمان: 34].

الخبرة مرتبة فوق العلم، فإنها تتجاوز العلم إِلى الإحاطة، إِلى المعرفة التامة التي تراكمت معها أمور المعرفة، هكذا هي الخبرة، وهكذا هم الخبراء في مقاييسنا معشر البشر.

 واسم الله سبحانه وتعالى الخبير هو العالم الذي نفذ علمه إِلى بواطن الأمور وخفاياها، كما أحاط علمًا بظواهرها وما يبدو منها.

اسم الله الخبير في عداد أكثر الأسماء الكريمة لله التي وقعت في كتاب الله الكريم، في نحو من خمسٍ وأربعين مرة، غير أن الملفت للنظر أن اسم الخبير لله سبحانه وتعالى لا يأتي منفردًا وحده في الآيات القرآنية، ويقترن بثلاثة أسماء دائمًا في كتاب الله الكريم:

أحدها: الحكيم، في مثل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 18].

وثانيها: اسم العليم، ﴿قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [التحريم: 3].

وثالثها: اسم اللطيف، في مثل قوله تَعَالَى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)﴾ [الملك: 14].

وبالتأمل نجد أن اقتران هذا الاسم الكريم بهذه الثلاثة أسماء لها دلالتها التي يراد أن تثبت فينا -قلوب أهل الإسلام- اللطيف الخبير، الحكيم الخبير، العليم الخبير، فالخبرة بالعلم الواسع المحيط المقترنة بالعمل اَلْمُطْلَق تأكيدٌ عَلَى علمٍ جليلٍ أحاط به الخبير سبحانه.

والحكيم جل في علاه لما يكون خبيرًا؛ فإنها منتهى العظمة التي يتصف بها ربنا سبحانه وتعالى، وقل مثل ذلك في اسم الله سبحانه وتعالى العليم واللطيف، فإنها تأكيد لمعنى إحاطة بعلم جليل.

هذا باب ندخل منه أهل الإسلام، ونعيش في أفيائه، معنى نتقلب في أكنافه تعظيمًا لربنا سبحانه:

·فيبعث فينا خوفًا؛ لأن لنا ربًا خبيرًا

·ويبعث فينا حياءً؛ لأن ربنا خبير سبحانه وتعالى

·ويبعث فينا رجاءً وحسن ظنٍ؛ فربنا خبير

 وهكذا تجتمع قواعد العبودية العظيمة وتستقر في أحد معانيها على توفير معنى اسم الخبير لله سبحانه وتعالى في قلوبنا وصدورنا معشر المسلمين.

أما إن اسم الله الخبير الذي ينتظم في أسماء الله الحسنى المشتملة على معنى العلم ينفذ بنا إِلى معنى دقيق في لطف الله وعلمه، وهذه كما جاءت في سورة الملك في صيغة استفهام: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)﴾ [الملك: 14]، ستجيب النفوس المؤمنة: بلى ربنا أنت أعلم بنا، فتفوض النفوس أمورها إِلَى الله، وتثق بما عنده، وتتكل عليه، فيستقيم للعبد إيمانه وتصفو حياته. 

قَالَ الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: "الخبير الذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة، ولا يجري في الملك والملكوت شيءٌ، ولا تتحرك ذرة ولا تسكن، ولا يضطرب نفس ويطمئن إِلا وعنده خبره.

قال: وهو بمعنى العليم، لكن العلم إذا أضيف إِلَى الخفايا الباطنة سُمي خبرة، وسُمي صاحبها خبيرًا"

 سبحان ربنا الخبير سبحانه.

 بالله عليكم كم يبعث هذا الاسم الكريم لله سبحانه في النفوس من طمأنينة عجيبة تتدفق ثقة بالله، وهي تركن إِلى رب خبير؟!

 أي والله كثيرًا ما نرتب لأمور دنيانا ومعاشنا، ونسعى في تدبير أحوالنا، ونجتهد فيما يصلح به أمر دنيانا وحياتنا وأولادنا وبيوتاتنا، وقد تفوتنا بعض القضايا، ونغفل عن بعض الدقائق، لكن الله جل جلاله وهو الخبير لا يعزب عنه مثقال ذرة، ولا يفوت عن علمه شيء سبحانه وتعالى.

عندما نكل تدبير أمرنا إِلَى الله الخبير نثق أن أمر معاشنا ومعادنا وأقواتنا وأرزاقنا بيد الخبير سبحانه.

 أي والله لن ينسى عبده، ولن يفوت عن علمه جل جلاله شيء يحتاج إليه العبد، فكيف إذا طرق بابه؟ وكيف إذا سأله؟ وكيف إذا فوض أمره إليه؟

 والله لا يخيب من رجاه، ولا يحرم من دعاه.

 املؤوا قلوبكم معشر العباد ثقة بربٍ خبير سبحانه، وسيحملكم هذا أيضًا عَلَى مزيد من مراقبة الذوات، وتهذيب الأنفس، وتقويم السلوك.

لأن ربنا الخبير لا يعزب عنه شيء، ويعلم خفايا الأمور وبواطنها، في الوقت الذي نشعر فيه أحيانًا أن ثمة أمور وقضايا بوسعنا إخفاؤها عن الأعين، وإذهابها عن مراقبة الرقيب وعين الراصد والمتابع، لكن الله سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيء، فينهض في النفس معنى خفي يرقى بها إِلَى الكمالات.

ويرفعها إِلَى أعلى الدرجات، تهذب فيها النفوس وتسمو وترتفع في أعالي الجنان، لأنها قد جعلت من اسم الله الخبير دواء وبلسمًا شافيًا، أحسنت توكلها، هذبت أخلاقها، استقامت عقائدها، فوضت أمرها.

 هكذا هي الحياة تصفو وتحلو في رحاب الإيمان بالمعنى العظيم باسم الله سبحانه وتعالى الخبير.

 



 


     ﴿   الـرؤوف   

بسم الله الرحمن الرحيم 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


 في الحديث الصحيح أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي جاءت تسعى إذ وجدت صبيًا بين السبي فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته.

 كان مشهدًا ملفتًا للأنظار، قال النبي صلى الله عليه وسلم موظفًا هذا المشهد في درس إيماني نريد أن نعيشه كما عاشه الصحابة رضي الله عنهم معه صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، فعيشوه بمشاعركم. 

قال: «أَتَرَوْن هذِه الْمَرْأَة طارحة وَلَدهَا فِي النَّار؟!»، فقال الصحابة: لا والله يا رسول الله وهي تقدر ألا تطرحه، فقال صلوات الله وسلامه عليه: «لَلَّه أَرْحَم بِعِبَادِهِ مِنْ هذِه الْمَرْأَة بِوَلَدِهَا»

 ما أعظم الله وهو القائل سبحانه: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (20)﴾ [النور: 20].

﴿لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (117)﴾ [التوبة: 117].

في غزوة تبوك جاء قول الله سبحانه وتعالى كما في سورة التوبة: ﴿لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (117)﴾ [التوبة: 117] 

وهكذا في نحو عشر آيات من القرآن الكريم سمى الله نفسه سبحانه وتعالى بالرؤوف، ويقترن دومًا باسم الرحيم.

الرؤوف صيغة مبالغة على وزن فعول من الرأفة، الرأفة: هي الرحمة وزيادة، هي أخص منها، هي أرق منها، هي رحمة في كمالها، واختصاصها، واشتدادها، فكل رأفة رحمة وزيادة، وكل رؤوف رحيم ولا بد وليس العكس، فما كل رحمة تكون رأفة، ولا كل رحيم يكون رؤوفا.

من هنا يأتي اسم الرؤوف مع الرحيم مقترنان في كتاب الله الكريم، والله سبحانه وتعالى سمى نفسه الرؤوف.

 وقد قال الإمام الطبري رحمه الله: "أي أن الله ذو رأفة بجميع عباده" قال: "والرأفة أعلى معاني الرحمة، وهي عامة لجميع عباده في الدنيا، ولبعضهم في الآخرة"، وصدق رحمه الله. 

فإن الله عز وجل لرأفته رحم عباده، وخصهم بهذه التكاليف، ولرحمته دعاهم إِلى توحيده وعبادته وكتب لهم -لرأفته سبحانه- جنة عرضها السماوات والأرض، لرأفته فتح لهم باب التوبة، وعفا عنهم، وتجاوز عن مسيئهم، وكفر عن سيئاتهم.

 لرأفته جعل للحسنات بابًا تضاعف فيه الأجور، وللمحسنين أبوابًا تتعدد منها إِلى الجنان مداخلهم.

الله عز وجل رؤوف رحيم، والمعوَّل على هذه الرأفة والرحمة، وهو القائل سبحانه: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)﴾ [النور: 20].

الله ربنا الرؤوف سبحانه وتعالى شرع لعباده من العبادات والتكاليف ما هو في حدود طاقتهم، ومن رأفته لم يحملهم ما لا يطيقون.

 وفي خواتيم سورة البقرة: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: 286]، قال الله: قد فعلت.

﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا﴾ [البقرة: 286]، قال الله: قد فعلت.

﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ [البقرة: 286]، قال الله: قد فعلت، كما في صحيح الإمام مسلم.

إن ربنا الرؤوف سبحانه وتعالى، من رأفته بنا -أمة الإسلام- في تشريع الأحكام أن خفف عن المريض والمسافر والعاجز والمعذور، الواجبات تسقط بالعجز، ولا يكلف الله نفسًا إِلا وسعها، وجعل من الرخص في أحكام الشريعة ما يخفف عنه العنت، ويزول عنه التكليف بالمشقة، ويجد العباد سعة وفسحة في امتثالهم أمر ربهم، والوقوف عند حدوده.

لأن ربنا رؤوف سبحانه وتعالى، فرأفته تنالنا ونحن نعبده جل جلاله، رأفته تغشانا ونحن نتقرب إليه، بل رأفته تدركنا ونحن ربما كنا على أعتاب المعاصي، وعلى خطا الخطايا نقترف الذنوب ونجترح السيئات، نعود إليه ونستغفره، ونتوب إليه ونؤوب، ونتلمس أبواب الرضا، ونطرق أبواب المغفرة، ونحن نعلم أن الله جل جلاله لعظيم رأفته ورحمته يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.

الله ربنا رؤوف رحيم، صفة تبعث في النفوس المؤمنة حبها لله، وشوقها، وعظيم تعلقها بكرم الله، أي والله، يستوي في ذلك الطائعون والعصاة على حد سواء، الكل يجد في صفة الرأفة حنانًا ودفئًا ورحمة تغشاه فيقترب من ربه أكثر وأكثر.

الرؤوف ربنا سبحانه وتعالى يتمنن على عباده، وهو جل جلاله يجعل من اسمه العظيم هذا -الرؤوف- بابًا يدخل منه العباد يُقبلون على ربهم، يستمطرون من رأفته، ويلتحفون من عطاياه ما يجعلهم على طريق العبودية أكثر صدقًا في استمساكهم بشرعه وثباتهم على طريق العبودية لله رب العالمين.

أما إن الله رؤوف، لكن رأفته ليست تحمل العبد أبدًا على جرأة وقحة يكسر بها باب الأدب مع الله معوِّلًا على رأفته، أما إن الذنب ذنب، والمعصية معصية، والخطأ خطأ، ونحن إِنما نعول على رحمة الله، ونسير إليه نطلب من رأفته، لكن الذنب حري به أن يجعلنا واقفين عند حدوده، لا أن يجترح المذنب ذنبه، وأن يقترف خطيئته متجرأً معولًا على رأفةٍ دونما تطرق إلى أبواب المغفرة.

هي موازنة يا كرام، فإن الله قد قال: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)﴾ [الحجر: 49، 50]، فلطفك ربنا ورحمتك، ورأفتك هي أوسع لنا، وعافيتك هي أحب إلى قلوبنا، وامنُن علينا بستر جميل، وتوبة صادقة نصوح يا أكرم الأكرمين.



 

Make a free website with Yola